أن تذهب بعيدًا كى ترى أوضح
هل يحتاج المرء الذهاب بعيدًا كى يكتشف ما هو قريب للتعرف على نفسه، والنظر إلى ما بداخله؟، هل يحتاج إلى أرض جديدة بمعايير مختلفة كى يوازن على ضوئها معاييره؟، اختيارات متنوعة بعيدًا عن فكرة الجمع والإجماع، وحده حيث لا معايير مسبقة، وحده فى مواجهة نفسه، فى مواجهة العالم.. تصف الأساطير الصينية العالم بأنه كالبيضة التى تقف على رأسها، وتشكل السماء جزءًا من هذه البيضة، وهى تبدو كالقصعة المقلوبة.
تطفو الأرض كالصفار، داخل المحيط القديم الذى يملأ نصف القشرة الثانية، يعيش فى داخل البيضة مارد يسمى فان-كو، رغم حجمه الضخم يواصل المارد النمو حتى تتهشم قشرة البيضة فتبتعد السماء عن الأرض، بعد وفاة المارد يتحول رأسه إلى جبل مقدس، وتتحول عيناه إلى قمر وشمس وتصبح شعراته أساسًا للشجر.
على الإنسان إذن أن يفتح هذه البيضة الملغزة والتعامل مع غلافها بحرص وحذر ودون استعجال، على نبض إيقاعه الداخلى، حتى لا يختلط بياضها بصفارها.
أمِن أجل هذا كان الأنبياء يعتزلون العالم قبل أن يتلقوا نداءهم.. محمد فى غار حراء..عيسى على جبل الجليل، يونس فى الحوت، يوسف فى الجب، يحيى فى برية الأردن؟.
اختبار أن تتوحد مع نفسك، أن تتأملها تفك ألغازها ترتق ثقوبها أو ربما فقط تعرف أماكن وجودها وتتعايش معها لأنها جزء منك، الفرار من الحظيرة، لكن الخوف أنك قد تفر من حظيرة لتنضم إلى حظيرة أخرى.
على جدار غرفتى لوحة «عازف الفلوت» لإدوارد مانييه، العازف الصغير فى وسط اللوحة، يقدم قدمه اليسرى فى بنطلونه الأحمر النبيذى، يشع بالضوء النابع من جسمه ومن تباين المساحات ودرجات الألوان دون استخدام مصدر خارجى للضوء، لوحة رسمها مانييه بحيادية لا أمتلكها تجاه ولد صغير يعزف لى وحدى، من الفلوت تنساب موسيقى تملأ أذنى، تذكرنى بمزمار «هاملين»، فهل تستطيع الموسيقى جمع مخاوفى وحملها بعيدًا أم تجذب كل الصور الشائهة إلى ذهنى؟.. فرانكنشتين الهائم على وجهه وحيدًا يجر ثيابه السوداء، تاركًا آثاره على الأرض التى تجف تحت وقع خطواته، فرانكشتين يميت كل ما يلمس، من كفه تتساقط الرمال والأوراق الصفراء، ولا تكفى شرارة كهربائية لبعث الروح وخلق التوازن.
يمر طائر أمام نافذتى، أحتاج لعمر حتى أعرف أسماء طيور مدينة غريبة، تطل نافذتى على ساحات شاسعة من المراعى وخلفها تلال تحيط بالمدينة أشهرها يطلقون عليه «آرثر سيت» أو مقعد الملك آرثر.
الأشجار العالية والخضرة الكثيفة الممتدة حتى منتزه «برنسيس» تستدعى الليل الذى يهاجم المدينة من خلف التلال، فيوقظ فى النفس خوفًا ووحشة، فتتجسد الساحرات على مكانسهن السوداء بقبعاتهن المرتفعة يبحثن عن وليد يخطفنه، وتستيقظ كائنات الليل من عالمها السفلى تهيم على وجهها تبحث عن ضحية، قربان، فيزداد توجسى وقلقى دون أن يبددهما صوت أو أذان.
* أمتلك مهارة ألا أخيب ظن الآخرين، ربما هى مهارة ورثتها عن جدتى «حسنة الفقى»، ولكن أنا التى يخيب ظنى فى نفسى وأفشل فى التمرد، دائمًا فى الصف الجيد المنضبط، وإذا خالفت القواعد لا ينتبهون لى ويبررون ما أفعل، فأنا الطفلة البريئة الجميلة.. فى الطابور حركة غير عادية، اليوم تفتيش مفاجئ على الزى المدرسى، القميص الأبيض والجيبة الزرقاء، الأظافر، الشعر، أنظر إلى بلوزتى، لأساور الكم، أضبط خطوطا رهيفة شعيرات من اللون الأزرق من القلم الحبر، تقترب منّى المفتشة، أتمنى أن تبتلعنى الأرض، تنظر لى بحياد، بعد أن استقرت على مقعدها، تعلن:
- أنظف وأحسن زى ماجدة كامل.
ارتحت تنهدت، ارتسمت ابتسامة حقيقية فى داخلى لكنها صفعتنى
- وحبيبة النحال...
هل أشير لها للخطوط الزرقاء؟ هل أنا وحدى التى أراها؟ لماذا يتعاملون معى كدمية صغيرة، لا يأخذون كلامى على محمل الجد كأنى فى نزهة.. كيف أشرح لمس «إحسان» أننى التى ضربت «طارق» لأنه ولد غلس، أخذ يضيق علىّ وعلى البنات ونحن نلعب فى الفسحة، بعض حركات الكاراتيه القليلة تعلمتها ولم أكمل لأن الرسم امتصنى، ومع ذلك لم تصدق المدرسة شكواه، بل استمعت إلى البنات وهن يبكين وأنا أمّنت على كلامهن، هل كان هذا أول تواطؤ فى حياتى؟ ربما. لكنه لن يكون الأخير.
من رواية «حسن الختام» دار رؤية ٢٠١٤.