شكرًا للرئيس وللبابا.. وللحظة الوطن
كانت زيارة سمو الأمير محمد بن سلمان، ولى العهد السعودى، حامل لواء مشروع التجديد والإصلاح بالمملكة العربية السعودية، التى وصفت فى وسائل الإعلام السعودية والعالمية بأنها الأهم، خاصة وهى الأولى له بعد تولى ولاية العهد- تُعد من نوع بناء علاقات تأسيسية، وتدشين مرحلة مستقبلية للمملكة ولنظام الحكم الحالى، الذى يرى أهمية عبور السعودية، إلى آفاق جديدة، تخطط لأن تكون قادرة - من خلالها - على مجابهة تحديات الإقليم والمستقبل معًا.
يبدأ ولى العهد بزيارة مصر، وهى إشارة لا تخطئها العين، إلى مراهنة المستقبل السعودى على علاقات أوثق وأعمق استراتيجيًا، مع المشروع المصرى الحالى، ويمثله الرئيس عبد الفتاح السيسى، بما يحمله من حلم للدولة المصرية، وما يملكه من رؤية لدور مصرى بالإقليم، الذى يحتاج فعليًا اليوم إلى مشروع وطنى خالص، ثابت الأقدام وقادر على مجابهة القادم.
هذه الدائرة الإقليمية تحدث عنها الرئيس المصرى، منذ اللحظة الأولى لظهوره على مسرح السياسة بالمنطقة، باعتبار أنها تحتاج شراكات استراتيجية مهمة، كى يصبح العمل العربى المشترك قادرًا على صياغة المستقبل. حيث لا مفر من الإسراع بترتيب رؤيتنا بشأنه، قبل أن يقتحمنا عنوة بمهدداته وبأخطاره.
الزيارة على صعيد العلاقات والرؤى المشتركة بين البلدين الأهم فى المنطقة، ستتوالى فعالياتها على معظم ملفات المنطقة، ومن المنتظر أن يتكشف ذلك قريبًا. لكن ما أراه استثنائيًا بكل المقاييس داخل وقائع زيارة طويلة ومزدحمة بالتفاصيل هو أن تكون «الكاتدرائية المرقسية» محطة رئيسية فى زيارات ولقاءات ولى العهد السعودى.
وقد تابع الجميع بنوع من - الانبهار الصامت - دخول سمو الأمير محمد بن سلمان، للقاء قداسة البابا تواضروس الثانى فى المقر البابوى، وأنصتنا إلى مفردات من الحوار الحضارى الذى تبادلاه، والذى جاء محملًا بقدر من الصدق لم يخف على المتابعين، ولا على وسائل الإعلام التى طيرته على الفور ليجوب أركان العالم بعد لحظات من وقوعه. فقد كان الحدث تاريخيًا بحق، كما عبّر عنه البابا «أهلًا بك فى بلدك، نحن فرحون وسعداء بك، ونسجل كتابة صفحة جديدة فى التاريخ».
تلك الزيارة المفعمة بالدلالات، تأتى تتويجًا مستحقًا لجهد كبير، بذل فى دأب ووعى منذ سنوات لصناعة جسر ثابت القواعد والأركان، كى نصل حقيقة لهذا المشهد. كنت أنوى الاستفسار من المسئولين، عمّن كان وراء إدراج تلك الزيارة على جدول أعمال ولى العهد السعودى. هل هو الجانب المصرى الذى هو فى العرف الدبلوماسى، يرى أن يلتقى ضيف رفيع المقام ومهم للدولة المصرية، بالأشخاص والأماكن التى يراها الأكثر تعبيرًا عن الرسالة التى يريد إيصالها للضيف. أم هو الجانب السعودى وفق أيضًا ما هو معمول به دبلوماسيًا، أن يقوم الضيف بدراسة دقيقة للمكونات الرئيسية ذات الدلالة للدولة التى ينوى زيارتها، ويحرص على اختيار أهم ما يراه ضروريًا أن تتضمنه لقاءاته، لضمان نجاحها وثرائها، ويقوم حينها بإبلاغ البلد المضيف لترتيب ذلك؟.
وجدتنى أحجم فى اللحظة الأخيرة عن طرح هذا التساؤل، فقد كانت الإجابة، أو الاحتمالان يؤديان -واقعيًا - لنفس المعنى، الذى خرجت به من هذا اللقاء، ومن تفاصيل وحوارات الزيارة التى تقع للمرة الأولى بهذا المستوى. وهو انعكاس صادق لحجم ما بذل من كثيرين، كى نسعد - ونفخر - بكلمات تقدير وثناء مستحق، وملم وذكى من الأمير الشاب وهو يلقيه فى حضرة قداسة البابا، عن «اعتزاز العالم كله، وليس مصر وحدها، بالأقباط وبدور الكنيسة المصرية» ويقدم له التعازى فى شهدائها. وليقابله البابا تواضروس بتقييم مقدر - ومتابع - لتجربة التطوير السعودية، التى يقودها ولى العهد فيما يشبه الثورة الكاملة.
فى هذا المشهد هناك الكثير من رسائل الشكر والفخر يستوجب المقام والحدث إنفاذها لأصحابها.. عن جدارة يأتى رئيس مصر عبدالفتاح السيسى كأول المستحقين بجدارة لكل الشكر والتقدير، على منهجه وسياساته التى اعتمدها فى سبيل الوصول بمكانة الكنيسة المصرية إلى وضعها المقدر فى قلب النسيج الوطنى. لم يكن الأمر سهلًا، وكانت لحظة البداية مليئة بالتعقيدات التى كان من الممكن أن تؤجل أو تصرف الجهد مؤقتًا.
لكن الرئيس السيسى لم يتأخر ولم يفقد إيمانه للحظة، بأن رهانه هو الرهان الوطنى الخالص. لذلك ظل لأربع سنوات كاملة، وكأنه يرى بوضوح ما يريد الوصول إليه، وبدت التحديات والوقائع المتوالية وكأنها الوقود الذى لم يصرفه لحظة، عن دفع الكنيسة والمصريين المسيحيين، للوصول بهم إلى مكانتهم اللائقة بالوطن. وهى مهمة لم يكن ليضطلع بها سوى رئيس إصلاحى صادق، أرهق نفسه للوقوف على مواطن الخلل واستنباط حلول واقعية، كى يحقق للوطن عافيته ويصوغ معادلة تماسك ومحبة، قادرة على مجابهة تحديات الفرقة العاصفة، ومؤسسة لقواعد جديدة جديرة بالمستقبل. شكرا سيادة الرئيس، صنعت لنا فخرًا حقيقيًا بإنجاز وطنى ومجتمعى، يحق لمصر أن تضعه فى سجل إنجازها الإنسانى.
الشكر الثانى، يأتى مستحقًا للبابا تواضروس الثانى الحبيب والغالى على نفوس وقلوب المصريين جميعًا. وكأنّ الله قد اختاره هدية استثنائية لمصر فى لحظة دقيقة، فهو بحق رجل المرحلة وحكيم المهام واللحظات الصعبة، قيادة روحية نفذت إلى العقول بسهولة ابتسامته الحانية. يسطر بهدوء ويقين حروفًا من نور فى تاريخ الكنيسة الوطنية، التى لم تتبدل ولم تتلعثم يومًا، وإن ظلت لها لحظات إشراق استثنائى سينسب له فيها الكثير. كل الشكر والمحبة الصادقة، لقداسة الأب المصرى الذى جاء ليعيدنا لكنيستنا، ويعيدها إلينا فخرًا لوطنها.
يأتى فى النهاية شكر واسع وعريض يشمل الكثيرين، الذين صدقوا فى نيتهم للسير على ذات الدرب الإصلاحى، لم يكن لديهم سوى وطنهم يحلمون به عفيًا صحيحًا، فبذلوا فى صمت الجهد الوفير كى نصل لتلك اللحظة من لحظات الوطن.