مناقشة صاخبة لكتاب أكثر صخبًا
«كفار قريش».. ماذا فعل النبى محمد بدين المصريين؟
فى الكتابة، غالبًا ما يؤدى استعجال الوصول إلى النتائج، لعدم اكتمال الفكرة، أو ضعفها، وربما يؤدى إلى إفسادها تمامًا فى بعض الأحيان.
وفى الكتابة أيضًا، ربما يؤدى التعسف فى إطلاق الأحكام، إلى الوصول لمحطات غير تلك التى كانت المقدمات تؤدى إليها، خصوصًا عندما ينطلق الكاتب من فرضيةٍ أساسية، لا يقبل معها جدال، رغم أن آفة الإنسان الجدل.
وفى السنوات الأخيرة، أصبحت هذه السمة هى الغالبة على الكتابات الصحفية، خصوصًا عند انتقال الصحفى إلى ساحة الكتب، تلك الساحة التى تتطلب قدرًا لا بأس به من الصبر، والمجهود، والبناء، والالتزام بمنهج واضح، فإن لم يكن، فبقدر من المعلومات، والمادة المعرفية، والأسلوب الجاذب، فإن لم يكن فبالجدة، والطرافة، وخفة الطرح، أو اللطافة. فإن لم يكن فالوضع على أرفف الـ«بيست سيلرز».
ربما يكون مقبولًا، أو يمكن تفهم أن يتعجل الكاتب فى الانتهاء من كتابه، إذا ما ارتبط بحدثٍ عام، كقيام ثورة، أو تكرار ظاهرة اجتماعية عامة، أو حدوث تغيير واضح فى البنية السياسية والاجتماعية، أو رحيل شخصية مؤثرة، سياسيًا، أو اجتماعيًا، أو دينيًا، أو حتى اقتصاديًا.
وهو ما يحدث كثيرًا فى الفترة الأخيرة، كاستجابة لقواعد سوق النشر، ومزاج القراءة المتعجلة، لكن أن يتعجل الكاتب فى إنجاز دراسة نقدية، يغلب عليها الطابع الفكرى، فهو أمر يستوجب التوقف عنده، والتنبيه إلى أهمية استكمال ما فاته، أو تأصيل ما غاب عنه من أفكار، ومعلومات.
قل «إعادة ترتيب الكون».. لا انقلاب الدعوة المحمدية على الديانة المصرية
أغلب ظنى أن هذا بالضبط، كله أو بعضه، هو ما حدث مع الكاتب الصحفى نبيل محمد رشوان، خلال رحلته لإعداد كتابه القيم «كفار قريش.. رؤية مختلفة»، فرغم جدية الطرح والموضوع، الذى يعيد الكشف عن العديد من المعلومات الغائبة بشأن عرب الجزيرة فى زمن البعثة المحمدية، ويعيد الاعتبار لسكان المنطقة بعد طول تشويه، لكن ليسمح لى الكاتب الكبير أن أختلف مع بعض ما جاء فى كتابه من أفكار وتصورات، أظن أن الاستعجال، والتعسف فى بعض الأحيان، أديا معًا إلى الكثير من الالتباس فيها، وصولًا إلى نتائج غير تلك التى تقود إليها المقدمات، كما أظن أنهما معًا، أيضًا، أديا إلى إطلاق أحكامٍ جانبتها الدقة، وأن هذه الأحكام بحاجةٍ إلى القليل من الجهد والبحث والإسناد، لكى تقترب من احتمالية الصواب، خصوصًا فى الافتراض الأساسى الذى ظل يتردد طوال صفحات الكتاب، بشأن انقلاب الدعوة المحمدية على الديانة المصرية القديمة.
تلك التى يقول إنها «سادت الكون كله ألوفًا مؤلفة من السنين»، وانتصارها لموجة الانقلاب الإبراهيمى التى يقول إنها «كانت تكاد تكتسح كل شىء فى طريقها، فى أوروبا والشام ومصر وشمال إفريقيا، وتكاد تحاصر جزيرة العرب من كل ناحية»، بينما تتناثر بين صفحات كتابه من الأدلة، والمعلومات، ما كان يمكن أن يؤسس عليه لفكرة دمج الدين الجديد لكلٍ من الديانتين، المصرية، والإبراهيمية، معًا، وفق تصور جديد، يعيد ترتيب الكون، ويعيد الاعتبار لعرب الجزيرة، ويخبرهم بأنهم من نسل إبراهيم وإسماعيل، وأن كعبة مكة بناها جدهم وابنه منذ مئات السنين، وليعيد لإسماعيل المكانة والقيمة، فبعد أن اعتبرته التوراة هو ونسله حُمرًا وحشية، وبعد أن رماه إبراهيم هو وأمه فى الصحراء، بلا مأوى لتأكلهما الوحوش، جاء القرآن ليمجد فعل إبراهيم، ويؤكد أن سببه هو بناء الكعبة، وأن إسماعيل هو الذبيح المقدس، والمفتدى من الرب.
الإسلام ينتصر لفكرة «التاسوع المقدس» عند المصريين
ينطلق الكتاب من فكرة انقلاب الدعوة المحمدية على ما كانت عليه جزيرة العرب، «وانهيار البناء العقلى والفلسفى للوجود كما كانوا يعرفونه فى إطار الديانة المصرية الكونية، التى تقول ببساطة إن الوجود ليس فيه سوى الله، وإن كل مفردات الكون من شمس وقمر ونجم وشجر وإنسان وطير وحيوان، محض تجليات إلهية، فالله عندهم ليس ثابتًا، بل متدفقا بالحركة والتغير، وليس فى الوجود إلا الله، وصوره، وتجلياته التى تتحول وتتغير»، ثم يقول إن محمدًا جاء ليتبنى الفكرة الإبراهيمية عن «الخلق»، متخليًا عن «التجلى»، منتصرًا لفصل السماء عن الأرض، وإخراج الله من كل تلك الكيانات المتدفقة، والمتحولة، فيما بينها، ليجلسه على عرش يحمله ثمانية.
وأظن أنه كان من الأوفق أن تلحق بهذه الفقرة، فقرة أخرى، أفردها الكاتب لتوضيح ما الثمانية، إذ يقول فى ختام كتابه إن الفراعنة آمنوا «بالتاسوع الأعظم، وهم الله الذى خلق نفسه بنفسه، والعناصر الثمانية الأساسية التى انبثقت منه، وهى الهواء «شو»، والماء «تفنوت»، اللذان انبثقت منهما السماء «نوت»، والأرض «جب»، اللذان بدورهما انبثق منهما الخير «إيزيس»، والخصب «أوزوريس»، والشر «ست»، والبركة «نفتيس».
ثم يوضح أن كبار الكهنة المصريين فى مناسبات دينية وفلكية خاصة، كانوا يسعون فى موكب هائل إلى «كنز المعبد»، وهو تمثال صغير يرمزون به إلى الإله، على شكل طائر من الذهب، له رأس أنثوى، ليجمع بين الذكورة والأنوثة، ثم يوضع هذا التمثال فى ناؤوس ذهبى صغير، يحمله ثمانية من الكهنة، وكأن التمثال الرمزى، والثمانية كهنة قد صاروا التاسوع الأعظم.. ويقول: «هذه كانت عقائد العرب الأقدمين، ولهذا ذهلوا عندما وجدوا أن القرآن الكريم يخبرهم بأن عرش الله يحمله ثمانية».
إن هاتين الفقرتين، وغيرهما من فقرات أخرى لا تتسع المساحة لذكرها، تكملان بعضهما بعضا، وهما معًا، إشارة شديدة الوضوح إلى فكرة الدمج التى قصدتها، بين الديانتين، المصرية، والإبراهيمية، وهو دمج فى صلب الدعوة المحمدية، وربما كان ليسهم بقوة فى توضيح فكرة المشروع السياسى التى تحدث عنها الكاتب فى أماكن عديدة من كتابه.
من بين الأفكار المهمة التى يتضمنها الكتاب، وكنت أتمنى أن يتوقف الكاتب عندها كثيرًا، ليدعمها بالتفاصيل، والمعلومات، والدراسة، والتحليل، ما جاء بالفصلين الثالث والخامس، «ديانة العرب قبل الإسلام»، و«الإسلام الإسماعيلى»، وهما الفصلان اللذان يتحدث فيهما عن انقلاب الدعوة المحمدية على الفكرة الإسرائيلية، بتهميش إسماعيل ونسله، وإعادتها لهم إلى صلب المشهد، بعد انتهاء دور بنى إسرائيل، وفشلهم فى تحقيق مشروع الرب على الأرض، وهو أيضًا ما يدعم تحفظى على مسألة عداء الإسلام للديانة المصرية، لصالح الموجة الإبراهيمية.
يؤكد نبيل رشوان أنه كانت هناك موجة إبراهيمية عاتية تهدف للقضاء على الديانة المصرية، زادت حدتها مع تبنى الإمبراطورية الرومانية لها، ثم يؤسس لهذا الاستهداف بما جاء فى «التوراة» بشأن المشروع السياسى والعسكرى لمن يسميه بالرب الإبراهيمى، مشددًا على أن الموجة المتحدية للديانة المصرية كانت موجة عبرانية، ومنها ما ارتدى ثوب الإسلام، وهو ما يسميه «الإسلام الإسرائيلى»، على اعتبار أن الإسلام هو الإيمان برب إبراهيم، وأن البشر قد تلقوا وحى السماء من خلال أنبياء بنى إسرائيل، والإيمان بأن المسيح نبى مرسل من الله، مثل غيره من الأنبياء، وليس إلها. ليصل إلى أنه ظهرت فى الجزيرة مذاهب تنادى بكل ذلك، وبالتالى فهى مذاهب إسلامية، أى هى إسلام مرتبط بالفرع الإسرائيلى من الدوحة الإبراهيمية، التى تستبعد إسماعيل تمامًا، من دائرة القيمة والقداسة.
ويقول إن محمدًا عندما تأمل هذه الموجة ودرسها، واكتشف خباياها وأسرارها، أيقن أن هذه الموجة، وصولا إلى محاولة أبرهة الأشرم هدم الكعبة، قضيتها الأولى ليست العقائد، ولكن المشروع السياسى والعسكرى، وهدفها هو الأرض.
ويتابع الكاتب: «إن محمدًا عرف أن الفرع الإسماعيلى قد هُمش تماما، واستبعد، فقرر إلحاق العرب أو الإسماعيليين بالمشروع الإلهى، وإذا كان الفرع الإسحاقى، أو الإسرائيلى قد فشل فى تحقيق مشروع الرب السياسى والعسكرى، فيجب على الفرع الإسماعيلى أن يلتحق بمشروع الرب، وقد جاءت اللحظة ليتحرك بنو إسماعيل، ويعلنوا التحاقهم به». واللافت هنا أن الكاتب يخلص بنفسه إلى أن القرآن الكريم، بناء على هذه المقدمات، يعيد صياغة المشروع العبرانى، ويؤسس لمشروعية جديدة، هى مشروعية بنى إسماعيل.
أنبياء ونبيات وأحناف ومصلحون حالمون
لم يكن مفاجئًا لى أن أرى فى الكتاب صورة جديدة لعرب الجزيرة وقت البعثة المحمدية، ففى هذا الكتاب الذى صدر مؤخرًا عن دار «منشورات البندقية»، سوف تجد نفسك أمام صورة جديدة تمامًا، على خلاف الصورة التى تم حفرها طوال عقود، لعرب البعثة، كأشخاصٍ غلاظ القلوب، متحجرى الملامح، قساة فى تعاملاتهم مع النساء، والطير، والحيوان.. صورة تامة الاختلاف لطبيعة الحياة، والبشر فى ذلك الوقت، منهم الأنبياء والمصلحون والحالمون، والفلاسفة، ومنهم الأحناف الذين رفضوا الديانتين اليهودية والمسيحية، وآمنوا برب إبراهيم، أما فيما يخص تعامل العرب مع النساء، فالصورة تبدو مما يرويه رشوان على عكس الشائع تمامًا، فإلى جانب العدد الكبير من الآلهة المؤنثة فى جزيرة العرب، مثل اللات والعزى، ومناة، وغيرها، فقد كانت لديهم أيضًا «نبيات» قدن قبائلهن، وتزوجن من أنبياء ودعاة، وخضن المعارك معهم، ولعل أشهرهن سلمى بنت بدر، التى جمعت حولها غطفان وهوازن وسليم وطىء، ووجهتهم لحرب خالد بن الوليد، وسقط دفاعًا عنها مائة رجل من أتباع دينها.
وتؤكد رؤية نبيل رشوان المختلفة لكفار قريش أنه مما أفزعهم من الدين الجديد أنه يزيح المرأة تمامًا من سلم القداسة، ويلغى مساحة الأنوثة من السماء.
الرموز الفرعونية.. حسم الخلاف لا بدايته
أخيرا يخلص نبيل رشوان إلى أن عرب البعثة، لم يكونوا كفارا، بل هم مؤمنون بإله واحد، قادم من الديانة المصرية القديمة، ويسهب فى وصف محاسنه، منطلقًا من «احتمالية» مخالفته لما جاء به الإسلام، دون أن يلاحظ التعسف فى تلك الفرضية، رغم أنه فى الفقرة الأخيرة من كتابه، يقول متحدثا عن عرب البعثة، ما نصه: «كما فوجئوا بوجود الكثير من رموز ديانتهم الفرعونية متناثرة فى النصوص المقدسة، فانتابتهم الحيرة، ولم يفهموا إلى ماذا بالضبط يدعو محمد، إلى رؤيته الانقلابية الأساسية للوجود، أم إلى رؤيتهم الفرعونية التى آمنوا بها آلافًا متتالية من الأعوام، ومن هنا كانت المواجهة بين الطرفين».
هكذا تقود الفرضية المتعسفة إلى نتيجة لا صلة لها بالصواب، ولا بما تقوله المقدمات، فلولا فرضية عداء الإسلام للديانة المصرية، وانحيازه للديانة الإبراهيمية، لكان من السهل أن يصل إلى أن الانطلاق من الدعوة إلى الديانة الإبراهيمية، هو ما ساعد على تقديم الدعم الأولى للدين الجديد، فى يثرب، وغيرها من القبائل، وأن ظهور الرموز الفرعونية فى النصوص المقدسة، هو ما أدى إلى نهاية عداء عرب الجزيرة للدعوة، وحسم المواجهة بين الطرفين، لصالح الدين الجديد الذى يجمع الديانتين.