مزرعة الموت.. ذكاء التوثيق وحتمية الترويج الدولى
العملية الأمنية التى قامت بها وزارة الداخلية، وأسفرت عن ضبط مزرعة بمحافظة البحيرة مساحتها 30 فدان، تابعنا جميعًا حجم الأسلحة والذخائر التى تحويها مخابئ سرية «تحت الأرض»، مصممة ومشيدة فى تقنية شديدة التعقيد والتمويه، حتى على أجهزة المسح الجوى الاعتيادية التى تعجز عن اكتشاف مثل تلك الأنفاق والحجرات المصممة بتقنية هندسية احترافية.
ولم تكن الاحترافية الهندسية مقصورة على مجرد إخفاء مجموعة من الأسلحة، فهى تجلت أيضًا فى تصميم شبكة كاملة من الشراك الخداعية المفخخة بالعبوات الناسفة، فضلا عن استحداث «مصنع متكامل» للعمل الكيميائى الهندسى فى صناعة المواد شديدة الانفجار، الذى يعمل وفق آخر ما توصل له العلم فى «المزج الكيميائى» لضمان الوصول لإنتاج العبوات صغيرة الحجم بقدر الإمكان، مع ضمان إحداث أعلى تأثير مدمر ممكن، والمزرعة التى جمع عنها جهاز الأمن الوطنى معلومات وافية مكنته من تنفيذ مداهمة ناجحة، بل تعد إحدى أبرع الضربات الأمنية المتميزة فى مجال مكافحة النشاط الإرهابى المسلح، تلك المزرعة كان بها جميع العناصر والمواد بكميات غير مسبوق ضبطها فى مكان واحد، وظهر بها نوعيات من الأسلحة ربما تظهر لأول مرة فى بيانات وزارة الداخلية وعلى شاشات الإعلام، مثل الألغام الأرضية «إيرانية الصنع» وبنادق الخرطوش ذات التقنية القتالية المتطورة «تركية الصنع»، وغيرها من قائمة طويلة ربما لا تكفى المساحة لتعدادها وإلقاء الملحوظات بشأنها.
لأن فى حقيقة الأمر هناك زاوية أراها فائقة الأهمية، وتستلزم التعامل العاجل معها، فالمفاجأة أن هذه «الضبطية الأمنية» ليست الأولى من نوعها فى مجال الوصول إلى «ملاذات آمنة»، أو «مخازن التسليح» أو أماكن تدريب الإرهابيين. فقد سبق تلك العملية عمليات مماثلة، ربما الأشهر فيها قامت به القوات المسلحة فى مناطق بعينها فى سيناء وصدرت بحقها بيانات أغلبها مقتضبًا من المتحدث العسكرى، النادر منها هو ما حظى بلقطات فوتوغرافية محدودة كان يتم نشرها صحبة البيان، الذى يغطى إعلاميا نشاط وجهود القوات فى مكافحة الإرهاب. المفاجأة أن القوات المسلحة أيضًا سبق لها الوصول وتحقيق ضربات مؤثرة فى ذات المنطقة التى شهدت تلك العملية الأخيرة، هذا كان فى أعوام الخطر والسيولة الأمنية 2011، 2012، وفيها يعود الفضل لأجهزة الدولة المعلوماتية ولوحدات متخصصة ومتنوعة من القوات المسلحة تنفذ على الأرض، حيث تمكنوا من تحطيم طريق التهريب العظيم الذى كان قادمًا من ليبيا يحمل أطنانًا من الأسلحة يوميًا، وبعدها فى أعوام 2014، 2015، كانت هناك ضربات عسكرية وأمنية فى مناطق متنوعة، أخطرها فى المحافظات المجاورة لقناة السويس فى برها الغربى، وفى حزام العاصمة الخطير بالجيزة والقليوبية.
الزاوية شديدة الأهمية، أننا لم نوثق هذه العمليات وغيرها على المستوى الدولى، فى الوقت الذى كانت فيه الكثير من دول العالم تمارس بحقنا مشهدًا من التضييق الخانق، البعض منه مازال حاضرا حتى اللحظة، الإجابة السهلة قبل الاسترسال فيما نقصد ونبتغى، وهل المجتمع الدولى سيرضى عنا بمجرد توثيق جرائم الإرهاب وجهود قواتنا المسلحة وأجهزتنا الأمنية؟، وفى خطوة أبعد فى الاستسهال يمكن القول إن المجتمع الدولى هو من يقف وراء دعم هذا النشاط الإرهابى، فكيف سيغير نظرته ومتى سيبذل تقديرا لما نقوم به؟ لكن الحقيقة أرى فى جزء كبير «لا يستهان به» من المشهد أنها غير ذلك، فليس الخارج كله قابعا فى سلة واحدة، والمجتمع الدولى حقيقة لا يقتصر على الحكومات والأنظمة، فهناك وسائل الإعلام وهى عالميًا، بها قدر من المهنية وحرية «النقل» لا يمكنها من تجاوز حدث فارق مثل «عملية إرهابية»، وهنا أتكلم عن الغالبية العظمى والتى لا تنفى وجود «شواذ» من القاعدة، لذلك على الأقل من المهم ضمان تدفق المعلومات التى تخدم قضايانا داخل هذه المساحة الغالبة، من أجل حصد التواجد الإيجابى الذى من الممكن أن يحطم أو يحاصر الاستثناء الشاذ. والقسم الثانى الذى يساعدنا على توثيق ما يخدم مصالحنا ووجهات نظرنا، هو مراكز الأبحاث والتفكير والدراسات العالمية، المتخصصة منها فى الشأن السياسى والاستراتيجى وهى الأهم فى الوصول للرأى العام الدولى وصناع القرار، جميعها اليوم لديها أقسام بارزة لقضايا الأمن ومكافحة الإرهاب والنشاط المسلح. لن يكون الكافة منهم جاهزين لتبنى وجهات نظرنا لكن ثمة مساحة هائلة قادرة على التفاعل معنا فى حال استهدفنا نحن ذلك، والباحثون عادة القائمون على نشاط الرصد والإحصاءات وتحليل الأرقام لن يمكنهم تجاوز وقائع متكاملة فى حال إجادة ترتيبها وصياغتها من جانبنا.
بالعودة إلى عملية الكشف عن «مزرعة الموت»، أظنها تحوى قدرًا عال من التفاصيل والمعلومات نرغب نحن كدولة مصرية فى أن تكون قيد التداول دوليا، بنفس درجة اهتمامنا فى الترويج الداخلى إن لم تفرقه فى قدر الأهمية لخصوصية العملية الأمنية، فهناك إشارات على سبيل المثال وليس حصرًا، أن المزرعة مملوكة لقيادى إخوانى وهذا يصنع دليلًا دامغًا على ارتباط «تنظيم الإخوان» المباشر بالإرهاب، وهذا يحلحل الموقف الجدلى العالمى من الطرح المصرى الذى لا يلقى قبولًا واسعًا منذ ثورة يونيو 2013، وضخامة حجم المضبوطات وتنوعها ودرجة خطورتها عكس جسامة المهمة التى تقوم بها القوات المسلحة والأمن المصرى فى مكافحة الإرهاب، واحترافية ونجاح الوصول للضبط القانونى يسجلان رصيدًا إيجابيًا ثمينًا بحق هذه الأجهزة الوطنية المصرية، الإشارات طويلة ومركبة وجميعها قابلة للاستفادة منها واللحظة لم تفلت بعد وأظن وجهة النظر وصلت فى هذا السياق.
لذلك مع كامل الاحترام لنشر العملية عبر برنامج مصرى محلى رغم أهميته، يظل قاصرا واستفادتنا واستثمارنا لها منقوصًا، فهذا الإعلام العالمى المشار إليه لديه لغة يفهمها وآلية وضوابط يعمل وفق قواعدها، فهو لن ينقل عن برنامج تليفزيونى مصرى خاص، لكن من خلال مكاتب ومراسلى قنوات إخبارية ووكالات أنباء من المتواجدين بالقاهرة، فى حال ترتيب زيارة لهم لموقع الحدث مع متحدث رسمى من قبل وزارة الداخلية والنيابة العامة وطرح التفصيلات الإجرائية من خلالهما، محطة مهنية واجبة لن يتركها هؤلاء بل سيكونون أحرص على صياغتها وبثها لأركان العالم على الفور. لدينا بالقاهرة العديد من هؤلاء المطلوب إنفاذهم إلى موقع الحدث بصياغة مختلفة للحدث، ستضمن حينها تواجده على شاشات العالم وتقاريره الإخبارية جميعًا، وهو مشهد ثمين لا يجوز خسارته لما له من أثر فائق الأهمية باللغة العالمية التى يستلزم إجادتها.