القادم مع الولايات المتحدة الأمريكية
ما تم من تفاصيل فى زيارة الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى إلى واشنطن، ولقائه الرئيس دونالد ترامب بالبيت الأبيض، ترجمته العامة أن هناك صفحة جديدة حقيقية قد تم افتتاحها ما بين الدولتين، هذا عبر عنه الرئيسان بوضوح، وكلاهما يعلن صراحة أنه يراهن على الآخر وعلى المشروع السياسى الذى يتبناه، مصر كانت تنظر لأهمية هذه الزيارة بكونها قادرة على طى سجل غير مريح فى علاقتها بالإدارة الأمريكية السابقة، حيث كان التناقض وتقاطع الرؤى قد وصلا بالبلدين إلى محطة اللاعودة، وهى محطة باهظة الكلفة لكليها، لكن ظروف الإقليم الاستثنائية والأهم ما جرى فى مصر 30 يونيو وما بعدها، دفع لهذا الخيار الذى بدا حينها حتميًا لدى إدارة أوباما على الأقل.
دونالد ترامب وإدارته الجديدة، دخلوا البيت الأبيض بزخم مجموعة من الانقلابات الاستراتيجية المحسوبة على سياسات أسلافهم، أولها تقييمهم مشهدًا عالميًا وصفوه بالفوضى التى تحتاج لترتيب بتوقيع أمريكى، وثانيها: سحب كل أشكال الدعم أو المراهنة على ما سمى «الإسلام السياسى» فى معادلات الشرق الأوسط، وثالثها: العودة للعمل مع قوى المنطقة التقليدية فى حال تناغمها مع آليات الإدارة الجديدة، ورابعها: إزاحة ما أطلق عليهم بـ«وكلاء الإدارة» خطوات إلى الخلف، حيث قدرت الإدارة الجديدة أنهم سبب محورى للفوضى المشار إليها، والمقصود بهؤلاء الوكلاء كل من إيران وتركيا. خامسها: والمرتبطة بأولًا ورابعًا، ضرورة تحطيم قدرات التنظيمات الإرهابية لا سيما «تنظيم داعش»، الذى كان قد وصل لمرحلة حرجة من القدرة على صناعة التهديد والفوضى المصاحبة. ومن ثم محاصرة أدوار إيران وتركيا المؤثرة فى تنامى تلك القدرات، الأولى بصناعة الاحتقان والمقابل الشيعى المسلح، والثانية بالدعم المعقد والمتنوع الذى قاد الإرهاب لتلك المكانة فى هذه الفترة الوجيزة.
العديد من تلك الانقلابات فى الرؤى الأمريكية، كانت تلقائيًا تفتح الطريق أمام دول مثل مصر والأردن على الأخص، بل ربما تقود إدارة ترامب إلى أن تجد كلا الدولتين هما الأولى بصياغة أجندة العمل المستقبلى معهما، لذلك لم تكن حفاوة استقبال الرئيس المصرى من قبل ترامب وإدارته، تنطوى على أى قدر من المبالغة البروتوكولية فيما حملته من إشارات وعبارات الدعم الكامل، وتثمين ملامح المجابهة المصرية «ثلاثة أعوام» فى الحرب على الإرهاب وفى تحمل أعباء التضييق والحصار الدوليين. بالنظر أيضا إلى عدم انزلاق القيادة المصرية فى أدوار إقليمية، كان من الممكن أن يصعب ترميمها اليوم، وهذه الأخيرة مما يدفع الجانب الأمريكى للتقدم والمراهنة على الدور المصرى بقدر أكبر من الارتياح والمرونة، على الأقل أمام قطاع أمريكى داخلى مازال يقف من مصر موقفًا عدائيًا، ولا يخجل من توصيف النظام المصرى بالانقلاب العسكرى وبالدكتاتورية والمنتهك لحقوق الإنسان، وهو قطاع سيظل مناصبًا العداء لترامب ومن سيتحالف معهم، لكنه يمكن مع الوقت أن تخفت حدة تأثيره، بقدر من الجهد بدأته إدارة ترامب وتحتاج لتفهم وتعامل مصرى ذكى يحطم أطروحاتهم ويخلق انطباعات بديلة تحتل المشهد.
تحت عنوان مكافحة الإرهاب، الذى احتل المساحة الأهم من أحاديث الرئيسين وأركان إدارتهما، وله ارتباط وثيق بما يسمى فوضى الإقليم وتهديداته، قد تكون هناك رؤية أمريكية لمستقبل ما بعد داعش على الساحة السورية على الأخص، وفى تلك المعادلة قد يتطلب الأمر الاستعانة بقوات عسكرية «مصرية ــ أردنية» فى مهمة لم تتكامل رؤيتها بعد، لكنها فى أقرب تصور لها أن تكون قوة حفظ سلام سيتم الوصول لإحدى محطاته بين الأطراف المتصارعة.
دارت أحاديث غير مكتملة حول هذا الأمر فى أروقة مؤتمر «أستانة 3» الشهر الماضى، وربما أطروحات ما سمى «الناتو العربى» أو الإسلامى فى تداول آخر، هو مما يقترب من تلك الرؤية الأمريكية. بالطبع لكل دولة فى المنطقة حساباتها وتقديراتها لكن يجب ألا يشكل هذا تخريجات معطلة أو مربكة، وهناك أسئلة ربما لم يحن توقيت طرحها الآن، من نوعية امتداد تلك المهام العسكرية لساحات أخرى مثل ليبيا أو اليمن، وما موقف روسيا وتركيا وإيران من هذا الترتيب؟ وإجابات ذلك قد لا تكون حاضرة لدى طرف بعينه، لكن فى أى تخريج لمشهد قادم يتم العمل عليه، مصر يلزمها دراسة الأمر بعناية ما يتفق مع مصالحها الإقليمية المباشرة، وبموازين تجعل انخراطها فى تلك المعادلة يصب فى صالح الإقليم بالقدر الذى تحدث به الرئيس فى القمة العربية الأخيرة، حول ضرورة تأمين المنطقة من التدخلات الخارجية، وإشارته فى هذا الصدد تذهب تجاه أن تتحمل الدول العربية عبء التصدى لمشكلاتها بإرادة عربية منفردة. وهذا لن يكون سهل المنال فى الوقت الحاضر بالنظر إلى حجم التدخلات الخارجية، لكنها مهمة عاجلة يبدو أنه قد آن الأوان للبدء فى أولى خطواتها، وفى هذا تحتاج مصر ومن سيعمل معها على هذا الأمر، لأكبر قدر ممكن من التوافق وتغليب المصلحة العامة واستهداف امتلاك إرادتنا الرشيدة.